الإعلانات
, , , , ,

فلفل أورفا

اليوم أحبّ أن أحدثك عن الفلفل المفضل لدي في المطبخ مع القليل من حكايات أهلها… الفلفل الأورفلي.

بالرغم من التنوع الكبير في أنواع الفلفل في مطبخي، إلا أنّني معتاد على انجذاب يدي أولاً إلى مرطبان الفلفل الأورفلي عندما أكون أبتكر وصفة في المقلاة أو الطنجرة… سواء كنت أطبخ اللّحوم أو الخضروات، فإن نكهة الفلفل الأورفلي تعطيني إحساساً بأن الوصفة ناجحة ولذيذة.

الفلفل الأورفلي من ريف مدينة أورفا، وهو ابن عم الفلفل الحلبي، الذي سأتحدث عنه بعد قليل، لكن قبل ذلك يجب أن نتحدث عن قيمة الفلفل الأورفبي ومكانته في بلادنا…

بالمناسبة، اسم مدينة أورفا السرياني هو أورهاي وهو تحوير عن اسمها الآرامي أوروهاي ܐܘܪܗܝ. الذي تحول في الفارسية في العصر السلجوقي حتى أصبح أورڤها بسبب تحول صوت الضمة بعد الراء إلى صوت ۉ الواو الفارسية، لكن سكّان المنطقة من العرب نطقنها أورفها بسبب غياب صوت ۉ في اللّسان العربي وارتباطه بصوت ف، وهو الاسم الذي أصبح أورفه في التركية المعاصرة.

قديماً وقبل الفترة الهلنستية، انتشرت ديانة في شمال سوريا والعراق وجنوب تركيا، المنطقة التي نعرفها تاريخياً باسم دولة حلب أو قنسرين أو إسوريّة أو يماحاض. هذه الديانة كان اسمها ديانة الخالين أو الغالين (أي المعلّمين، حيث خال=غال=قال=گال=معلّم من كلمة قَيِّل اليمانية). ولقرون أعطت هذه الديانة مكانة شبه مقدّسة للفلفل واعتبرته هدية كريمة من الرب تمّوز (ذو موز) خليل عشتار. وسبب هذا الاعتقاد هو توقيت موسم ظهور قرون الفلفل واحمرارها المتزامن مع عيد تموز في فصل الصيف… كانت ديانة الغالين ديانة فلسفية واعتبرت فلسفتها أن أكل الفلفل هو احتفال وتقدير لنعم وعطايا تمّوز على أبنائه الفلاحين، وفي نفس الوقت يبعث تمّوز مواد مفيدة وبركة عن طريق قرون الفلفل.

هذه القيم الدينية صنعت اقتصاد مدن دولة حلب نوعاً ما، لأن مقدّسات هذه الديانة أصبحت هي الصادرات الرئيسية لمدن حلب وجلبت لأبنائها دخلاً يعيشون منه طوال السنة. لهذا السبب أصبح الفلفل الحلبي مكوِّناً رئيسياً في مطابخ الشرق الأوسط وكذلك مطابخ البحر المتوسط، الذي امتدّ حتى أصبح للفلفل الحلبي بأنواعه حضور قوي وظاهر في المطابخ الأمريكية المعاصرة… ونتيجة لهذا الحضور الاقتصادي للفلفل، أصبحت كل واحدة من مدن إقليم حلب تعمل على تطوير صنف خاص بها من الفلفل الحلبي، وتفتخر بدرجة حرارته العالية والقوية، وفي نفس الوقت أصبح موسم الفلفل جزءاً أساسياً من احتفالات السوريّين المطبخية، وعنصراً مهماً من المؤونة السورية، وحفلة جميلة مليئة بالسعادة في أكلات المحمرة.

وبالفعل، خلال العصرين المملوكي والعثماني (على الأقل) وحتى تقسيم بلادنا، كان الفلفل هو مصدر الدخل الأول لأهل أورفا، والصادر الذي يفتخر به الأورفلي وتقوم عليه ميزانية كل شركات المدينة وأسواقها. بالتالي، كان من يعمل في تجارة الفلفل في المدينة هو صاحب الدخل الأعلى والتاجر ذو الهيبة الذي له كلمة في السوق.

يصل الفلفل الحلبي على مقياس سكوڤيل حتى 10000 وحدة، أي قرنين حمراوين على القائمة، لكن حرارة ابنه الأورفلي تصل حتى 50000 وحدة سكوڤيل، أي 3 قرون حمراء على القائمة من أصل خمسة عالمياً. وعلى الرغم من تصنيف الفلفل الأورفلي على أنّه “حار جداً”، إلا أن نكهته الرائعة تخفي حرارته العالية في الوصفة، أي أنّك تشعر بشخص محترم يتعامل مع براعم التذوق برقّة ولا يجرحها.

اسم الفلفل الأورفلي باللّغة التركية هو إيسوت بيبير İsot biber، بسبب لونه، والاسمان شائعان حول العالم. ويكون لونه عند الحصاد أحمر داكن (وليس غامقاً) ونكهته الرائعة تشبه نكهة الزبيب المدخن. نكهة فاخرة للفلفل ليست حادة جداً ولا مباشرة.

يبدأ تحضير الفلفل الأورفلي للسوق بتجفيفه في الشمس بعد القطف، ويغطّى ملفوفاً بإحكام ببطانية قطنية في اللّيل من أجل التعريق. والتعريق بمفهوم مزارعي الفلفل هو تعويم الرطوبة التي لا تزال موجودة داخل قرون الفلفل حتى تعود وتصنع طراوة في القرن الجاف، وتتكرّر هذه العملية عدّة أيام حتى يغمق لون الفلفل الأحمر ويصبح أسوداً.

بعد الاسوداد، تنزع البذور من الفلفل الذي يطحن بالفرك باليد أو الدق في الهاون أو الهرس بالحجر. وكل واحدة من هذه العمليات تنتج منتجاً مختلف الشكل وله راغب في السوق. فمثلاً يسمى الفلفل المطحون في التركية پول بيبير pul biber أي فلفل رقائق، وهو المفضّل على المائدة، في حين أنّ المسحوق مفضّل في المطابخ أكثر، وأمّا المعجون فهو المفضل عند أهل الفلفل السوريّين الذين يستخدمونه في العديد من الوصفات والأطباق بما في ذلك المكدوس.

أما الفلفل الحلبي، الفلفل الأحمر الجميل، أمّ الفضائل كلها في عالم مطابخ البحر المتوسط، فكان الصادر الثاني (بعد الوشنة) لدولة حلب في العصرين الأيوبي-المملوكي والعثماني، وكان دبس الفلفل (رُبّ الفلفل) هو الصادر الأوّل إلى جانب دبس الوشنة والصابون، وهي المنتجات الثلاثة التي حقّقت أكبر دخل لأبناء مدن حلب… ومن ولائي للفلفل الحلبي أحتفظ به في مطبخي في ألمانيا مجفّفاً قرون كاملة، غير مطحون، وأحياناً أطحنه في أثناء الطهي في المدق أو أستخدمه مكسّراً بالمقصّ وكاملاً في الغالب.

اسمه العربي الفصيح “فلفل حلب” وهو اسمه المترجم في مختلف لغات العالم. وكان تصدير دبس الفلفل ودبس الوشنة هو السبب الرئيس لاستيراد “المرطبان” الجرّة الزجاجية الميانمارية، التي استوردها التجار الحلبيّون من ميانمار في أيام “مملكة پيگو” في القرن الخامس عشر. وهي التي كان اسمها مملكة مارتابان Martaban، ثم أصبحت صناعة المرطبانات من أهمّ الصناعات الحلبية في القرن السابع عشر.

المواد التي تجعل فلفل حلب لذيذ وذائع الشهرة مشهور:

  1. القاپسيسين Capsaicin: المركَّب الأساسي الذي يضيف الحرارة والحدّة إلى الفلفل.
  2. ثنائي هيدروفاپسيسين Dihydrocapsaicin: مشابه للقاپسيسين ويساهم في الإحساس بالحرارة.
  3. كاروتينويدات Carotenoids: تضيف ألواناً حمراء وبرتقالية وتساهم في النكهة المنعشة.
  4. مركّبات كبريتية: تضيف نكهات معقّدة ومميّزة.

يضيف فلفل حلب العديد من التغييرات إلى الطبيخ، مثل النكهة المدخنة والمنعشة، والحرارة المعتدلة، والألوان. إذ يضيف فلفل حلب نكهة مدخنة ومنعشة مميّزة، ممّا يجعل الأطباق أكثر تعقيدًا ولذّة. ويعطي حرارة معتدلة مقارنةً بأنواع الفلفل الأخرى، ممّا يجعله مفضّلاً لمن يحبون النكهة دون الحدّة الزائدة. ويضيف لوناً أحمر غنيّاً إلى الأطباق، ممّا يجعلها تبدو شهية أكثر.

    الطريقة الأفضل لطبخ فلفل حلب للحصول على أفضل نكهة هي استخدامه كمسحوق إذ يُفضّل استخدام فلفل حلب على شكل مسحوق ليكون أكثر انتشاراً في الطبخ. يمكن رشّه على الأطعمة في المراحل النهائية للطهي لتعزيز النكهة. ويمكن إضافته إلى الصلصات واليخنات في المراحل الأخيرة من الطهي ليُعطي نكهة عميقة ومميزة. كذلك تحميص الفلفل قليلاً في مقلاة جافّة على نار متوسّطة لبضع دقائق يمكن أن يُعزز نكهته المدخّنة ويُطلق زيوته العطرية. ويمكن استخدامه في تتبيلات اللّحوم والدواجن لزيادة النكهة. كما أنّه يُضيف نكهة مميّزة عند رشّه على السلطات والأطباق الباردة.

    يفضّل حفظ مسحوق فلفل حلب في وعاء محكم الإغلاق في مكان بارد ومظلم للحفاظ على نكهته. وبهذه الطرق يمكنك الاستفادة القصوى من نكهة فلفل حلب في الطهي وجعل أطباقك أكثر لذّة ورقيّ.

    وللفلفل الحلبي أنواع كثيرة، أكثرها شيوعاً هي المعروفة في سوريا باسم الفلفل الأحمر، والشطّة التي يشبّه الخبراء نكهتها الحلوة بطعم عطر الكمّون المالح، بالإضافة إلى العينتابلية والأورفلية والحسكورية وزنبور الست.

    وفي بداية القرن العشرين أخذها معهم المهاجرون إلى أمريكا، العرب والأتراك والأرمن، وأصبحت من أهمّ زراعات فلوريدا ونيومكسيكو، ودخلت في كامل المطبخ الأمريكي، وأحب الطهاة الأمريكان الفلفل الحلبي حتى ذكرت صحيفة نيويورك تايمز طعمه بعبارة “حلاوة تشبه فرفحة العطور في الفم”. ومن بنات الفلفل الحلبي في المطبخ الأمريكي المكسيكي أيضاً فلفل أنچو chile ancho أو الفلفل البوبلاني، الذي كان الإسبان قد زرعنه قديماً في منطقة پوِبلا Puebla جَنُوب المكسيك، وأهمّيّته في المكسيك عالية لدرجة استخدام ألوانه الأخضر والأحمر على العلم الوطني المكسيكي. ويحتفل الناس عادة بالفلفل الأخضر منه بطهيه محشواً مثل المحاشي الشرق أوسطية.

    بالنسبة لي، أحب الفلفل بجميع أنواعه… كان معهم حق الحلبيّون قديماً عندما اعتبروه هدية الله… وحبي للفلفل الأورفلي يمتدّ حتى قالب البراونيز اللّذيذ.

    المراجع

    1. آنيت كرابر (2014). الفلفل الحار: تاريخه وأهميته في المطبخ العالمي. دار النشر جامعة كامبريدج.
    2. فريدريك روز (2006). بهارات من العالم القديم: التأثير الثقافي والاقتصادي. دار النشر جامعة كاليفورنيا.
    3. جون دو (2011). النباتات الحارة في تاريخ المطبخ. دار النشر جامعة هارفارد.
    4. ماري جين سميث (2015). فلفل من الشرق: أصول الفلفل الحلبي واستخداماته. دار النشر جامعة أكسفورد.
    5. كريستوفر جيز (2008). الثقافات الغذائية والبهارات: دراسات مقارنة. دار النشر جامعة كولومبيا.
    الإعلانات

    تبرّعك يساعدنا على الاستمرار، ويدعم تطوير هذا المحتوى العلمي

    مرة واحدة
    شهري
    سنوي

    تبرّع لمرّة واحدة

    تبرّع شهريّاً

    تبرّع سنويّاً

    اختر المبلغ

    €5.00
    €15.00
    €100.00
    €5.00
    €15.00
    €100.00
    €5.00
    €15.00
    €100.00

    دعمك لنا مفيد جداً.

    شكراً جزيلاً لدعمك.

    نقدر على الاستمرار بفضل دعمك.

    تبرّعتبرّعتبرّع

    تعليقات

    ردان على “فلفل أورفا”

    1. صورة أفاتار 3aynwow
      3aynwow

      تدوينة ممتعة بإمتياز. أكثر ما لفت انتباهي هو كيف أن الاقتصاد في المنطقة العربية كان على درجة عالية من النشاط حيث أن تصدير مادة غذائية إلى أقاصي آسيا في القرن الخامس عشر أدى إلى استيراد مكون أساسي ما زال يُستخدم إلى يومنا الحالي ( المرتبان) !

      إعجاب

      1. صورة أفاتار مؤنس بخاري

        نعم، كانت شبكة واحدة تربط العالم الإسلامي بقوة، بواسطة تشابك مصالح شركات تجارية يملكها ويديرها عرف في كل مكان

        Liked by 1 person

    أضف تعليق

    الإعلانات

    إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم