الإعلانات
, , ,

في تأصيل كلمة فلافل

استمع للتدوينة

يكثر تداول معلومة شائعة بالنسخ واللّصق دون تحقّق، تقول أنّ أصل كلمة فلافل من القبطية Φα Λα Φελ بمعنى المحتوية على الفول الكثير. لكن هذه المعلومة مضحكة، ومن الواضح أنّها غير صحيحة، ولا علاقة لها بالتراث المصري أو القبطي لا من قريب ولا من بعيد. وسأفنّد هنا الأخطاء فيها، مبتدأً بمصدرها.

حبّات فلافل مصنوعة من الحمّص
حبّات فلافل مصنوعة من الحمّص

يعتمد أصحاب هذه الفرضية السخيفة على معجم قبطي-إنگليزي هو The abbreviated coptic English dictionary وهو ليس معجماً قديماً بل معجم حديث يمثّل القبطية الحديثة التي يتحدّثها بعض مسيحيّي مصر العرب في الزمن المعاصر. صانع هذا المعجم هو المصري {أديب مكر}، نشره سنة 1983 على نفقة {دير القديس مينا العجايبي} في مدينة الإسكندرية. والدير حديث كذلك تأسّس سنة 1959، وعلى مستوى الوثيقة التاريخيّة فهي وثيقة لا قيمة له. ولنشرح السبب:

معجم {أديب مكر} متخصّص بالقبطية الصعيديّة الحديثة، وهي قبطية الكنيسة المصرية، وركّز في معجمه على المفردات الدينية المسيحيّة المتداولة اليوم، خدمة للكنيسة. فهو ليس وثيقة تاريخية يُعتمد عليها بخصوص القبطية التي كانت متداولة في بعض مصر في العهد البيزنطي.

وفق كتاب Egyptian Grammar: Being an Introduction to the Study of Hieroglyphs الذي نشره المتخصّص بالمصرية القديمة آلان گاردنر Sir Alan Henderson Gardiner. الكلمة المصرية القديمة تسمية للفول هي {سونو} 𓅮𓏏𓈖 (زونو) ولم تستعمل المصريّة القديمة الكلمة العربية فول أو “فُل” حسب فرضيّة الأخ أديب، اسماً للفول، وليس في القبطيّة كلّها كلمة شبيهة بتسمية الفول. إذ أنّ التسمية القبطية القديمة للفول هي ⲃⲁⲩⲉ بَوع، لاحظ كيف أن ليس فيها فاء ولا لام، وليست فول على فرضية الأخ أديب ودير مينا. ولا يوجد دليل قبطي قديم واحد يحتوي كلمة فُل بمعنى فول.

الآن نأت إلى كلمة فلافل العربية، التي هي جمع تكسير واضح من كلمة فِلْفِل والتي تسمّى في مصر طعميّة، مذ تعرّفت مصر إلى الطعميّة. ولم تعرفها مصر ما قبل القرن العشرين باسم فلافل، ولم تزل إلى اليوم شائعة فيها باسم طعمية.

كرات الفلافل
كرات الفلافل

فلافل في الأصل كلمة آرامية بصيغة الجمع أصلها پلاپيل ܦܠܐܦܝܠ\𐡐𐡋𐡀𐡐𐡉𐡋 ومعناها كرات صغيرة. مفردها پلپل 𐡐𐡋𐡐𐡋 وپِلپال 𐡐𐡋𐡐𐡉𐡋. وتفصيحها فِلْفِل. وفي الشام بلبل. وهي السبب كذلك في تسمية الفلفل، لأنّه كرات صغيرة. والكلمة الآرامية پلپل في الأصل دخلتها من اللّغات الهندوأوروپية من الشرق، وليس لها جذر آرامي. ومن تفريعاتها إلى جانب العربية فِلفِل: السنسكريتية پِپّال पिप्पलि والأرمنية فلفيل պղպեղ والعبرية پيلپيل פִּלְפֵּל. وكلّ هذه الكلمات على المعنى الأصلي ذاته: كرات صغيرة.

حتّى تسمية الفول نفسها هي في الأصل آسيوية هندوأوروپية وليست عربية، ومن نفس المصدر الذي قدّم كلمة پلپل الآرامية. إذ أنّ الكلمة الهندوأوروپية پُل بمعنى كرة صغيرة تحوّرت في الآرامية البابلية كذلك فصارت پولا פֹּולא بمعنى حبّة بقول وعنها اشتقّ العرب كلمة فول. أمّا تسمية الفول العربية في الأصل فهي باقلاء. مع الأخذ بالاعتبار أنّ للكلمة الهندوأوروپية قريب سامي-عربي قديم هو پول pūl بمعنى ذُرة وبذرة.

كل هذا التأصيل بناه وعن دراسة آثارية واسعة اللّغوي {علی‌اکبر دهخدا القزويني} ونشره سنة 1931 في معجم لغت‌نامۀ دهخدا والرجل مشهود له بحياديّته وأساليبه العلميّة في البحث والتقصّي، لأنّه يقدّم أدلّة عينيّة وبراهين. ومعجمه الشهير يزعج أهل القوميّة الفارسية أحياناً.

الذكر الوحيد لكلمة تشبه كلمة فلافل في كتب الطبخ القديمة نجده في كتاب الطبيخ العبّاسي البغدادي، ولا يوجد أقدم منه. وهو وصفة الأرز المفلفل والتي ليس فيها فلفل ولا فول. ويشرح كتاب لسان العرب من القرن 13 أنّ الشعر مُفَلْفَل إِذا اشتدَّت جُعودته. وأَدِيم مُفَلْفَل: أي منكّه بنَهَكه الدِّباغ. وَيُقَالُ: جاءَ فُلَانٌ يَتَفَلْفَلُ إِذا مَشَى مِشْية الْمُتَبَخْتِرِ. ويقول ابن منظور أنّ الفُلْفُل، بِالضَّمِّ: (بزر) مَعْرُوفٌ لَا ينبُت بأَرض الْعَرَبِ وَقَدْ كَثُرَ مَجِيئُهُ فِي كَلَامِهِمْ، وأَصل الْكَلِمَةِ فَارِسِيَّةٌ. والمُفَلْفَل: ضَرْبٌ مِنَ الوَشْي عَلَيْهِ كصَعَارِير الفُلْفُل. وَثَوْبٌ مُفَلْفَل إِذا كَانَتْ داراتُ وَشْيه تَحْكِي استِدارة الفُلْفُل وصِغَرَه. وخمرٌ مُفَلْفَل أُلقي فِيهِ الفُلْفُل فَهُوَ يَحْذِي اللسانَ. وشرابٌ مُفَلْفَل أَي يلذَع لذْع الفُلْفُل.

لفّات فلافل بالخبز المشروح
لفّات فلافل بالخبز المشروح

كل هذا الذي مضى من الكلام يناقش في أصل كلمة الفلافل فقط. ولو أردنا الدخول في أصل الوصفة، فأنا شخصياً لا أعتقد بقِدم أكلة الفلافل على الإطلاق، بل أراها من مأكولات العصر الصناعي الحديث، التي ظهرت بعد ظهور الحاجة إلى توفير أكلات عمّال منخفضة الكلفة وذات قيمة غذائية عالية. 

والمصدر الوحيد الذي تعتمد عليه خرافة عودة الفلافل إلى مصر القديمة أو مصر المسيحية المبكّرة، هو فرضية قدّمها سنة 1999 كتاب فرنسي منشور بالإنگليزية تحت عنوان Food: A Culinary History from Antiquity to the Present تحرير جان-لويس فلاندرين Jean-Louis Flandrin وماسيمو مونتاناري Massimo Montanari. وعلى الرغم من أنّ هذا المصدر يقترح بعض المعلومات حول أصل الفلافل، إلا أنه لم يذكر مصدر محدّد يفصح عن أساس هذه الفرضية أو تفاصيل تاريخية عن مصر القديمة. فهو كتاب قدّم فرضية رومانسية بطريقة الحكاية، دون تقديم دليل واحد يدعمها. وهو بالتالي ليس وثيقة تاريخية.

لو كانت الفلافل قديمة فعلاً، لوجدنا نسخاً عن وصفاتها في المطابخ الإيطالية واليونانية والإسپانية، هذه المطابخ التي لم تفتأ تستعير وتنقل عن المطبخ المصري القديم، ومطبخ القرون الوسطى العربي. أما الفلافل والطعمية، في الواقع، فلا توجد حتّى في تراث المغرب العربي المطبخي، ما يعني أنّها وصفة شديدة الحداثة، لم تزل تنتشر في هذا العالم. وأعتقد أنّ البحث في أصلها داخل الشرق الأوسط هو بحث عبثي، إنّما يجب الاكتفاء بالقول بأنّ الفلافل من الأكلات العربيّة التي وُلدت في عهد الدولة العثمانية، وكفى. 

أخيراً، الفرضية المقبولة من وجهة نظري في أصل الفلافل وطالما أنّها لم تُذكر في أيّ من كتب الطبخ القديمة قبل القرن 19، عربية وغيرها، أنّها كانت تُصنع بداية من البرغل بصورة كرات كبّة غير محشية، ثمّ لمّا انتشرت زراعة الحمّص في الشام في القرون الوسطى المتأخّرة استبدلت الناس البرغل بالحمّص، ثمّ لمّا هبطت وصفة الفلافل مع أهل فلسطين إلى مصر، استُبدل الحمّص الشامي بالفول المصري وهي تتكلّم العربيّة، وخرجت وصفة الطعمية التي تحمل كذلك اسماً عربيّاً. والتي لم تعرفها مصر في العهد القبطي القديم.

الإعلانات

تبرّعك يساعدنا على الاستمرار، ويدعم تطوير هذا المحتوى العلمي

مرة واحدة
شهري
سنوي

تبرّع لمرّة واحدة

تبرّع شهريّاً

تبرّع سنويّاً

اختر المبلغ

€5.00
€15.00
€100.00
€5.00
€15.00
€100.00
€5.00
€15.00
€100.00

دعمك لنا مفيد جداً.

شكراً جزيلاً لدعمك.

نقدر على الاستمرار بفضل دعمك.

تبرّعتبرّعتبرّع

تعليقات

أضف تعليق

الإعلانات

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم