تعدّ مدينة حلب ذات تاريخ عريق وحافل بالأحداث المهمة التي شكلت مسارها السياسي والاقتصادي على مر العصور. منذ سقوطها تحت سيطرة الساسانيين في القرن السادس الميلادي، شهدت حلب سلسلة من الحكم والصراعات بين القوى المختلفة من الدول الإسلامية والصليبية والمغولية والعثمانية والفرنسية.
برزت حلب كمركز تجاري وصناعي مهمّ في المنطقة، وكانت عاصمة لعدّة دول إسلامية مثل الحمدانيين والمرداسيين والأيوبيين والزنكيين. شكلت موقعها الاستراتيجي على طرق التجارة الدولية سبباً رئيسياً لازدهارها وجعلها محط أنظار القوى الخارجية الطامعة في السيطرة عليها.
تعرّضت حلب للعديد من المجازر والحروب الأهلية على مرّ التاريخ، بما في ذلك الحملة المدمرة للمغولي تيمور لنگ في عام 1400. ومع ذلك، نجحت في الحفاظ على مكانتها المرموقة كمركز حضاري وثقافي في المنطقة حتى وقوعها تحت الحكم العثماني في القرن السادس عشر.
سنة 540 قامت قوّات الساساني كسرى (خسرو الأوّل) باجتياح مدينة حلب وحرقها وإزالتها عن الوجود في مسعاه للاستيلاء على أنطاكيَّة، بعد استجداء القوط الشرقيّين بكسرى للهجوم على البيزنطيّين من الشرق أملاً بإيقاف التقدّم البيزنطي على الغرب.
في مطلع القرن السابع عادت ونزلت سوريا ومعها حلب تحت سلطة الساسان، ثمّ لمّا تحوّلت السلطة إلى المسلمين سنة 637 كانت حلب صغيرة في داخل أسوار قلعتها، تتبع محافظة قنّسرين التي تتبع محافظة سوريا الرومانية (أنطاكيَّة). ما جعلها طيلة العهد الأموي من جند قنّسرين، إحدى الأجناد الخمس.
سنة 892 أسّس الحمدانيّون التغالبة دولة لهم في ماردين توسّعت لاحقاً على دياربكر والموصل، التي نقلوا العرش إليها فحكموا كامل البلاد السريانيّة، إلى أن دمّر البويهيّون دولتهم بالتحالف مع الأكراد سنة 979. في تلك الأثناء بقي من آل حمدان سيف الدولة الذي استقلّ بقطعته من سوريا.
سنة 944 اتّخذ سيف الدولة الحمداني من حلب عاصمة لدولته ونقل إليها أهل قنّسرين في مَعْرِض صراعه مع أرمن كيليكيا، الذين حاربوا العرب بالوكالة نيابة عن البيزنطيّين. ومع خراب الدولة الحمدانية في الموصل سنة 979 تأسّست ولأوّل مرّة دولة حلب، واستعملتها تالياً كلّ القوى العربيّة والتركيّة في المنطقة قاعدة لحرب البيزنطيّين في الشمال.
سنة 1004 أزال الفاطميّون مُلك الحمدانيّين عن حلب وتأسّست فيها الأسرة اللؤلؤية التي زالت سنة 1016. ثمّ عاد مُلكها إلى الفاطميّين وصاروا يعيّنون عليها أمراء من الأرمن المسلمين. وقد حاول هؤلاء الاستقلال بدولة حلب عدّة مرّات وفي كلّ مرّة يغتالهم الفاطميّون.
سنة 1024 نجح المرداسيّون بالاستقلال بحلب وحكموها حتّى 1080. ثمّ عيّن العقيليّون المضريّون من الموصل أميراً على دولة حلب، إلى أن أخذها السلاجقة.
سنة 1086 بدأ الحكم التركي على حلب بتعيين السلاجقة سلاطيناً من التركمان عليها. وتغيّر بالتالي لقب أمير الدولة إلى سلطان.
سنة 1117 نزلت سلطنة حلب تحت حماية دولة الأرتقية التركمانية الذين أعادوا لها لقب الدولة وعاد حاكمها أمير.
سنة 1128 آلت الأمور في دول حلب إلى الأتابيگ الزنگيّين وهم تركمان كما الأراتقة.
سنة 1183 أعاد الأيّوبيّون تأسيس سلطنة حلب، وبقيت سلطنة كذلك تحت حكم المماليك بدئاً من سنة 1261. مع ذلك كان مماليك حلب مستقلّين عملياً عن سلطة مماليك القاهرة.
سنة 1258 قام إلخان فارس بتدمير مدن الجزيرة جميعاً، بما فيها الحاضرة الرقّة والعاصمة الموصل، فانتقلت صناعات الجزيرة إلى حلب مع النازحين من كل أرجاء تلك البلاد، لا سيّما الرقّة والموصل، وصارت حلب آنذاك سيّدة صناعات المشرق، وقاعدة أرستقراطيّة عربيّة ذائعة السطوة شرق البحر الأبيض المتوسّط.
مطلع سنة 1260 دخلت حلب قوّات مشتركة مغولية-أرمنية بقيادة المسيحي المغولي كتبغا (كيتوبوقا نويان)؛ ونفّذت مجزرة ممنهجة على مدى أشهر أبادت فيها أغلب المسلمين واليهود من سكّان المدينة، واستمرّت الحال إلى أيلول سپتمبر من نفس السنة حين دخلت قوّات المماليك من فلسطين فقتلت كتبغا في الجليل، ثمّ تابعت حتى دمشق وحلب وحرّرتها من الاحتلال في كانون أوّل ديسمبر 1260.
سنة 1261 اشتعلت في حلب حرب أهلية انقسم فيها جيش المماليك، ونالتها تدخّلات من المغول والأرمن، واستمرّت عشرين سنة حتى 1281. وكان سبب الحرب الأساسي هو أمل جزء من المماليك بالاستقلال بدولة حلب، مع دعم فرنسي-مغولي.
منتصف سنة 1299 عادت قوّات الإلخان المغولي غازان بن أرغون إلى المشرق أملاً بهزيمة المماليك وتوسيع إلخانية فارس حتى البحر الأحمر. تحالف مع الفرنسيّين وعملائهم؛ أرمن كيكيليا، وصنع جيشاً من فرسان الهيكل وفرسان الإسبتارية، وطلب المدد من بابا روما واعداً بإعادة فلسطين إلى الفرنسيّين.
تمكّن من أخذ حلب وحاصر دمشق، واستمرّت الحرب حتى سنة 1303 حين هزمه المماليك في معركة مرج الصُفر في دمشق، فانسحب بقوّاته إلى شرق الفرات.
سنة 1337 ومع انحلال سلطنة الروم الإسلامية وخروجها من دائرة النفوذ الإلخاني، دعم المماليك تركمان البيات لتأسيس إمارة ذو القدر فيما كان الجزء الشمالي من دولة حلب. تأسّست الإمارة في مدينة البستان ثم انتقلت في نهاية عهدها إلى مرعش. وكان جيشها مكوّن من فصائل بياتيّة وأوشاريّة وبَكْتِليّة وعربيّة مضريّة.
سنة 1352 دعم المماليك انقلاب تركمان يورير Yüreğir البكتاشيّون على سلطة الأرمن المسيحيّين في كيليكيا، ونال البكتاشيّون دعماً من السريان المحلّيّين كذلك، فتأسّست المملكة الرمضانية في أضنة منهية بذلك التهديد الأرمني لحلب.
سنة 1400 نالت حلب مجزرة رهيبة ارتكبتها قوّات المغولي تيمور لنگ، الذي صنع برجاً من رؤوس عشرين ألف من سكّان المدينة.
سنة 1407 انهارت سلطنة حلب واستعاد المماليك السيطرة العسكرية عليها بالمطلق، وآلت السلطة فيها إلى ضبّاط الجيش.
سنة 1420 أسّس النازحون العائدون إلى حلب حيّ الجديدة خارج أسوار المدينة، وكانوا بأغلبهم من المسيحيّين السريان الذين فرّوا من المدينة تحت وطأة المذابح التيموريّة.
سنة 1517 انضمّت دولة شام إلى السلطنة العثمانية ودخل جيشها يعاون الجيش العثماني على فتح حلب، فصارت دولة حلب جزء من إيالة شام العثمانية.
سنة 1522 ضمّ العثمانيّون إمارة ذو القدر التركمانيّة وتأسّست فيها إيالة مرعش.
سنة 1534 أعاد العثمانيّون لحلب استقلالها الإداري بتأسيس إيالة حلب، كما أعادوا ضمّ إيالة مرعش إلى حلب بناء على رغبة أهل مدينة البستان، وصارت من ألويتها.
بعد تأسيس الإيالة في حلب منحت الدولة العثمانية فيها النفوذ والسيطرة الاقتصادية لعائلات من بدو العرب أمثال عائلات أبوريش والعبّاس، وعيّنت من العشائر منصباً دائماً حمل لقب چول باي أي أمير الصحراء. ثمّ فتحت المجال للدول الأوروپية المختلفة لفتح سفاراتها ومراكزها التجارية والصناعية في حلب، فبدأت البندقية سنة 1548، ثم فرنسا سنة 1562، ثمّ إنگلترا سنة 1583، ثم هولاندا سنة 1613. وصار لأمير الصحراء ضرائب يجنيها من سيطرته على خطوط الشحن التي تحمل تجارة هذه الدول الأوروپية عبر إيالة حلب وما حولها.
سنة 1608 تحالف العثمانيّون مع تركمان يورير البكتاشيّين فضمّوا أضنة وأسّس اليورير قيادة جديدة لقوّات الإنكشارية (يڭيچرى) وصارت كلّها بكتاشيّة، وصارت كيليكيا جزء من إيالة حلب.
سنة 1864 تحوّلت إيالة حلب إلى نظام الولاية وتأسّست فيها ولاية حلب العثمانية. ثمّ فُصل الجزء ذو الأغلبية الكردية من سنجق مرعش وضُم إلى ولاية معمورة العزيز في ذات السنة.
سنة 1865 أعاد العثمانيّون فصل كيليكيا عن حلب بتأسيس ولاية أضنة (ادنه).
سنة 1869 تدمّر اقتصاد حلب بشكل عميق مع افتتاح قناة السويس وانتهاء دورها كمحطّة رئيسة على خطوط التجارة الدولية. وهجرتها العديد من الشركات الأوروپية.
بعد الحرب العالمية الأولى ومع تقاسم التركة العثمانية نزلت ولاية حلب تحت الانتداب الفرنسي الذي أسّس فيها سنة 1920 دولة حلب État d’Alep.
سنة 1923 وبموجب معاهدة لوزان، قسّمت فرنسا دولة حلب ومنحت النصف الشمالي منها إلى جمهورية أنقرة بشكل رسمي، وكانت قوّات مصطفى كمال قد سيطرت فعلاً ومنذ 1920 على مرعش وعينتاب وأورفة. وكانت مرعش آخر المدن التي تقاتل فيها الفرنسيّون مع قوّات أنقرة. وبموجب المعاهدة نالت قوّات مصطفى كمال كذلك حرّيّة التواجد في سنجق إسكندرون، على الغرب من دولة حلب.
سنة 1925 ضمّت فرنسا ما تبقّى من دولة حلب إلى الاتّحاد السوري، ثمّ فصلت سنجق إسكندرون في دولة خطاي Hatay Devleti المستقلّة سنة 1938 التي اختارت الاتّحاد بتركيا في العام التالي.
استمرّ وجود دولة حلب عشر قرون، تتداول عليها الأسر الملكيّة والإمبراطوريّات المتعاقبة، إلى أنّ حلّها أخيراً الفرنسيّون وقطّعنها لدمجها بما بقي من دولة شام ومتصرّفية الزور لتشكيل الاتّحاد السوري، ومن ثمّ الجمهوريّة السوريّة. وبهذا انتهى حضور دولة حلب من الحياة الإقليميّة في الشرق الأوسط.
الخارطة لحدود ولاية حلب بألويتها الثلاث في نهاية العهد العثماني. رسمتها استناداً على خارطة منشورة في الصفحة 126 من المجلّد الثاني من أطلس La Turquie d’Asie الفرنسي، منشور سنة 1892. ورسمتها للمقارنة مع الحدود المعاصرة.
مراجع ومصادر
- كتاب “تاريخ حلب” للمؤرخ ابن العديم (توفي سنة 1224م)
- كتاب “تاريخ مدينة حلب” للمؤرخ ابن الشحنة (توفي سنة 1546م)
- كتاب “الدولة الحمدانية” للمؤرخ أحمد صدقي العمري
- كتاب “الدولة الأيوبية” للمؤرخ عماد الدين خليل
- كتاب “سورية وفلسطين تحت الحكم الإسلامي” للمؤرخ فليب حتي
- موسوعة حلب التاريخية، إصدار مديرية ثقافة محافظة حلب
- مقال “العلاقات بين دولة حلب والدولة الصليبية”، مجلة المؤرخ العربي
- خرائط قديمة لمدينة حلب وإمارتها في عهد المماليك والعثمانيين
- سجلات الأرشيف العثماني حول ولاية حلب
- أطروحات ورسائل جامعية حول تاريخ حلب السياسي والاقتصادي والاجتماعي
- “التاريخ الإسلامي لحلب”، تأليف: كامل الغازي.
- “حلب: تاريخ مدينة عربية”، تأليف: Ross Burns.
- “المدن في الإسلام”، تأليف: أندريه رايموند.
- “أطلس تاريخ الإسلام”، تأليف: هوغ كينيدي.
- “التاريخ السياسي للدولة الأموية”، تأليف: غالب العمري.
- “الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى”، تأليف: مارشال غ. س. هودجسون.
- “حلب في العصور الوسطى: الاقتصاد والمجتمع”، تأليف: محمد عدنان البخيت.
- “حلب: المدينة التاريخية والحضارية”، تأليف: رفعت النعامي.
- “التاريخ الاقتصادي للشرق الأوسط 1800-1914″، تأليف: شارل عيسىوي.
أضف تعليق