ما بين القرنين السادس والرابع قبل الميلاد حكمت الشرق الأوسط إمبراطورية هي الأكبر والأكثر اتّساعاً بين الإمبراطوريّات القديمة، تلك التي نظّمت أوّل مؤسّسة عسكرية مستقلّة في التاريخ المعروف، وأنشأت طرق التجارة الدوليّة على نفقة الدولة، ونظّمت نظام الضرائب الاتّحادي بناء على نظام اقتصادي زراعي (إقطاعي)، واخترعت نظام البريد الحكومي. هذه الإمبراطوريّة معروفة في تاريخنا الحديث باسم الإمبراطورية الأخمينيّة نسبة لاسم العائلة التي حكمتها، لكنّ اسمها الرسمي كان “خساچه” وعاصمتها بابل وقانونها هو القانون الأشّوري ولغتها الرسميّة والعلميّة هي الآرامية (البابليّة)، واسمها العالمي في الغرب كان الإمبراطورية الأسوريّة “أسوريا”، وفي الشرق كان اسمها قوريشستان.
مع الأسف تندر النصوص التي وصلتنا من تلك الإمبراطورية بسبب جهود الإسكندر المقدوني وجنوده في حرق كلّ المكتبات الأخمينيّة؛ طمعاً بالاستيلاء على أملاك الضباط من الأراضي. لكنّ بعض النصوص الناجية المكتشفة مؤخّراً في قبور ملكيّة تُظهر ملامح الحكم والسياسات الأخمينيّة في وقتها، وأختار منها هنا جزأ يتعلّق بالعرب.
بعض نصوص الإمبراطور “دارا الأول” (داريوس العظيم – داريوش الكبير) اكتُشفت مدفونة في موقع مدافن نقش الرستم غرب إيران منذ القرن السادس قبل الميلاد، وتذكر تلك النصوص محافظة أو ولاية إمبراطورية باسم “عَرْبَيَّه” منقوشة بشكل “أرْبَيّا” 𐎠𐎼𐎲𐎠𐎹 ولا وجود لحرف ع في النصوص المسمارية الأخمينيّة.
- ء َ = 𐎠 هذا الرمز يعادل الهمزة وحركة الفتحة العربيّات ولا يعادل حرف ا.
- ر = 𐎼 هذا الرمز يعادل ر حرف راء ساكن.
- ب = 𐎲 هذا الرمز يعادل بَ حرف باء ينتهي بحركة الفتحة.
- ء َ = 𐎠 هذا الرمز يعادل حركة الفتحة العربية إذا وقع في وسط الكلمة.
- يا = 𐎹 هذا الرمز يعادل يّا حرف ياء مشدّد ينتهي بصوت ألف، ولم يستخدم لغير النسبة في نهاية الأسماء.
تحدّد نصوص دارا الأوّل حدود محافظة أرْبَيّا بالأرض من دلتا النيل غرباً وحتى منطقة الجزيرة وملتقى العراقين شرقاً، ما يعني أنّها كانت جزء من المملكة البابلية قبل ضمّها إلى خساچه ثمّ صارت محافظة منفصلة مع انتقال العاصمة الأخمينية إلى بابل. إذ فصل الأخمينيّون محافظة خاصة ببابل أسموها سيتَّكيني بابيرُص وضمّت عرش أربيل (أسگرطه).
وتحدّد النصوص كذلك جيران المحافظة العربيّة داخل المملكة البابليّة بالمحافظات التالية: (التسمية الأخمينيّة أولاً ثمّ التسمية المعاصرة بين قوسين)
- على الشرق سيتَّكيني بابيرُص (بابل)
- على الشمال أطورا (أسوريا)
- على الغرب مُضرايه (مصر)
المحافظة العربيّة كانت تشكّل أقصى جنوب الإمبراطورية الأخمينيّة في شبه الجزيرة العربية، فلا تحدّها محافظة من الجنوب. بينما تحدّ محافظة مُضرايه جنوباً محافظة كوشيّا (إيثيوپيا) والتي تبدأ تماماً بعد جزيرة الفنتين جنوب مصر.
كما تذكر النصوص حملة دارا الأول على مصر والتي تكوّنت فرقها العسكرية من كتائب أرْبَيّا. كذلك تسجّل النصوص مشاركة فِرق أرْبَيّا العسكريّة في حملة دارا الثانية على بلاد الإغريق، كما تحتوي جدران أحد المقابر في موقع نقش الرستم على تصوير لجندي عربيّ من أربَيّا في لباسه العسكري.

في الواقع نال العرب امتيازات في خساچه الأخمينية بسبب انضمامهم واشتغالهم في الجيش الاتّحادي، فنالوا إعفاءً تامّاً من الضرائب، واشترى منهم القصر الملكيّ سنوياً لبان البخور وقِرب ماء جلديّة للجيش، هي على الأغلب من جلد الماعز. واللّبان عموماً كان من أهمّ السلع العربيّة طوال الألفيّة التي سبقت المسيح.
هكذا نستنتج أنّ الولاية العربيّة في الإمبراطورية الأخمينيّة كانت كامل منطقة الشمال العربي المعاصر، من العراق حتى مصر السفلى، فعلياً كلّ الأرض ما بين النيل والفرات، وهذا يسبق الإغريق والرومان والساسان والبيزنطيّين والإسلام، ويقدّم دليلاً على النفوذ السياسي للعرب في شمال الجزيرة العربية في ظل الإمبراطوريّات المختلفة، طيلة الألف عام التي سبقت الإسلام.

هذه الولاية ذاتها بحدودها أسماها الإغريق زمن الأخمينيّة “أسَگَرطه” ولاحقاً arabia petraîos، التي صارت في لاتينية الرومان لاحقاً وبصيغة مؤنثة arabia petraea، والتي تعني حرفياً من الإغريقية، ”عربيّة الصخرة“ أو عربيّة پترا نسبة باسم عاصمتها پترا، واسم البتراء پترا Pétra معناه صخرة أو صخريّة كونها منحوتة في الصخور ومقطوعة منها، أو لأنّ الناس فيها عبدت الحجر الأسود. لاحقاً وفي زمن الرومان انحسرت تسمية “أرابيا پترايه” الرومانية في قسمها الغربي الأوسط فقط مع ذهاب القسم الشرقي لصالح الإمبراطورية الپارثية، وفُصل قسمها الغربي تحت إدارة پطولمية رومانية.
من كلّ ما وجدته في النصوص الأخمينيّة أجد أنّ مثقّفينا العروبيّين الأكارم قد أساؤوا لتاريخ العرب كلّ الإساءة، أولاً بزعم حداثة الوجود العربيّ في سوريا والشمال عموماً، وثانياً بجهل الدور العربيّ الكبير في الإمبراطورية الأسوريّة الأخمينيّة التي جعلوها فارسية، وثالثاً بإساءة ترجمة اسم العربية البترائية بشكل يسخّف تاريخه.
وهكذا يصبح واضحاً مصدر تسمية العرب والعربيّة، وما كانت أولى الممالك التي منحت العرب اسمهم هذا. وهي كلمة ناتجة ببساطة عن اسم جهة الغرب في اللّغة البابلية (الآرامية) خلال القرن السادس قبل الميلاد، ثمّ استمرّت الدول من بعدها تستعمل ذات التسمية؛ التي فقدت معناها بزوال اللّغة البابلية من الاستخدام.
اترك تعليقًا