الإعلانات
, , , , , , , ,

في اسم ديار بكر

يسرق أكراد اليوم حاضر وتاريخ مدينة ديار بكر العربية جَنُوب تركيا، في عمليّة مستمرّة لأكثر من مئة سنة. مدّعين لها تاريخاً مزوِّراً لتسميتها القديمة آمد؛ على أنّه كردي، وينسبون اسمها التراثي {ديار بكر} إلى إقطاعي تركي تارَة وكردي تارَة ثانية، مدّعين أنّ هذا الاسم لم يكن متداولاً قبل الدولة العثمانية، فإليك سرد حقيقي في تاريخ اسم هذه المدينة.

ديار بكر اسمها القديم كان آمِدَة وذكرتها التدوينات العربية القديمة بصيغة آمِد، كما ذكرتها التدوينات اللاتينية بصيغة أميدا، في حين أوردته بعض التدوينات البيزنطية المتأخّرة بصيغة آمِت. 

التسمية الآشورية {آمِدَة} 𐡀𐡌𐡃𐡕 في الأساس عن تسمية آراميّة سبقتها هي {آمِدا} 𐡀𐡌𐡃𐡀 وهي التسمية نفسها التي استمرّت في عهد الآراميّة الإمبريالي بصيغة 𐡀𐡌𐡃𐡕 ثم صارت في العهد السرياني {أماضو} ܐܡܐܕܘ وكُتبت كذلك {أمضو} ܐܡܕܘ. 

يعود أصل تسمية {آمِدا} 𐡀𐡌𐡃𐡀 الآرامية للمدينة إلى الكلمة الآرامية {أمّاتا} 𐡀𐡌𐡕𐡀 (أمّيتا)، وهي نفسها في العهد الأگّدي 𒂊𒈠𒋫، والكلمة الآراميّة {أمّاتا \ أمّيتا} مشتقة من الجذر الثلاثي السامي (العربي) المشترك أ.م.م (أمّ) والذي يحمل معاني الأمّ والأصل والبيت والوطن. وهو المعنى الأصلي لاسم مدينة آمد، ديار بكر.

في القرون الوسطى

في العهد الروماني ثبّتت الحكومة سنة ٦٦ ق.م تسمية {أميدا} AMIDA للمدينة. وهي نفسها التسمية الرسمية التي حافظت عليها الحكومة البيزنطية بصيغة Αμίδ، غير أنّ الحكومات البيزنطية الشرقية تداولت أحياناً تسمية {آمِت} Αμít. وهذه التسمية موجودة في بعض التدوينات العربية القديمة، ما يعني أنّ عرب المنطقة تداولنها كذلك اسم محلّي.

في العهد الأموي درج استعمال تسمية {مدينة ديار بكر} بشكل رسمي بمعنى {مدينة (عاصمة) دولة (بني) بكر} إلى جانب {ديار مضر} و {ديار ربيعة} من ديار الجزيرة العليا. واستمرّت هذه التسمية تتداولها أغلب الحكومات المسلمة حتى العهد العثماني حين عادت تسمية {آمد} لتُطلق على المدينة بشكل رسمي، طالما أنّ الدولة العثمانية درجت على استعمال ذات المصطلحات البيزنطية. 

سوريا الساسانية
سوريا الساسانية

وكان بنو بكر قد حكموا المنطقة منذ الفترة الأشكانية (الپارثية) حين أطلق الأشكان على منطقة الجزيرة العليا كلّها تسمية {عرب إستان} لأكثريّة العرب فيها. ثمّ استمرّ بني بكر على نفوذهم فيها في الفترة الساسانية حين حالفوا ملوك أورهي الأنباط ودخلوا في ديانتهم المسيحية، في نفس الفترة التي تحالفوا فيها مع ملوك الأرمن لتوفير حماية من الأشكان والساسان. ثمّ عاهدوا الخليفة عمر بن الخطّاب بعد المفاوضات الشهيرة ما بين الخليفة وبني تغلب في القرن السابع. 

الانضمام إلى دولة الخلافة

بعد توحيد معظم الجزيرة العربيّة تحت راية الإسلام في عهد خلافة أبو بكر الصدّيق. واجه خليفته عمر بن الخطّاب مسألة توحيد باق الجزيرة الشمالي لتمامها، واحتاج إلى ضمّ الجزيرة العليا (شمال سوريا والعراق حاليّاً) التي كانت تسيطر عليها قبيلة بني تغلب. ورأى بن الخطّاب وجوب أن يكون هذا الانضمام سلميّ دون حرب.

وكان بنو تغلب على المسيحيّة السريانية، وعلى حرب عنيفة وطويلة مع الساسان. وتحت إمارة بني تغلب كان حكم بني ربيعة على شرق الجزيرة العليا، وحكم بني بكر على شمال الجزيرة العليا… وفي حين حكم بني تغلب غرب الجزيرة مباشرة، غير أنّ الساسان كانوا قد طردوا التغالبة عن مدينتهم الرقّة فنزحوا إلى مدينة المعرّة (معرّة النعمان).

خارطة منطقة الجزيرة ما بين القرنين السابع والثالث عشر
خارطة منطقة الجزيرة ما بين القرنين السابع والثالث عشر

أرسل الخليفة عمر بن الخطاب ثلاث وفود من الصحابة للتفاوض مع بني تغلب حول حلفهم دولة الإسلام وشروط ذلك. كان الوفد الأوّل سنة ١٣ هـ (٦٣٤ م) برئاسة سعد بن أبي وقاص، والثاني سنة ١٤ هـ (٦٣٥ م) برئاسة أبو عبيدة بن الجراح، والثالث سنة ١٥ هـ (٦٣٦ م) برئاسة المغيرة بن شعبة. 

وفي حين فشل الوفدين الأوّلين، نجح الثالث في إقناع بني تغلب على حلف دولة الإسلام، والتعاون في الأمور العسكرية والسياسة في مواجهة الساسان، بشرط حفاظ أهل الجزيرة العليا على مسيحيّتهم دون دفع الجزية، وهي المسيحية التي حاربوا الساسان لأجلها، وطالما أنّ عساكر التغالبة سيخدمون في جيش الدولة الإسلامية. واشترط التغالبة استعادتهم مدينة الرقّة عاصمة للجزيرة العليا، وإعادة توحيد ديار الجزيرة مع حكم ذاتي. وفي نفس الوقت وافق زعماء بني تغلب على الامتثال لأحكام الإسلام دون دخوله، مع السماح بالدعوة الإسلامية في ديارهم.

مذّاك صار يقال جزيرة تغلب وديار الرقّة، ومقسّمة إدارياً إلى ديار مضر وديار ربيعة وديار بكر. وكانت الجزيرة العليا قد تقسّمت عقب اندلاع حرب البسوس سنة  ٥٧٠ م (حرب الأربعين سنة)، واستمرّ الانقسام حتّى عاد توحيد ديار الجزيرة العليا تحت رئاسة تغلب سنة ٦٣٦ م.

خريطة أبرشية المشرق في القرن الخامس
خريطة أبرشية المشرق في القرن الخامس

ويمكن القول أنّ حرب البسوس كانت نتيجة لظروف سياسيّة عاصفة عصفت بالمنطقة ككل، أبرزها:

  • ٥٢٧ م: اندلاع حرب بين الإمبراطورية البيزنطية والساسانية، كانت الجزيرة العليا هي ساحتها، واستمرت حتى عام ٥٣٢ م.
  • ٥٤١ م: ثورة نيكا Νίκα ضدّ الإمبراطورية البيزنطية، وتُعرف أيضاً باسم “تمرد الهيبودروم” أو “تمرد العربات”. وأدّت إلى مقتل الإمبراطور البيزنطي جوستنيان الأول.
  • ٥٧٠ م: ولادة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في مكّة. واندلاع حرب البسوس في نفس السنة.
  • ٥٧٢ م: حرب بين مملكة أورهي والإمبراطورية الساسانية، كان من نتائجها تهجير التغالبة إلى القسم البيزنطي من سوريا.
  • ٦٠٢ م: اندلاع حرب القرن السابع العالمية باندلاع حرب بين الإمبراطورية البيزنطية والساسانية، واستمرّت ثلاث عقود حتى عام ٦٢٨ م وانتهت بانطلاق الفتوحات الإسلاميّة.
  • ٦٠٩ م: ضمّ الإمبراطوريّة الساسانيّة لمملكة أورهي.

الوضع المعاصر

سنة ١٨٩٥ بدفع من ألمانيا والولايات المتحدة الأميركية، ارتكبت فصائل كردية مذابح واسعة في حقّ سريان و وأرمن ديار بكر، لمنع مشروع فرنسي يهدف إلى إنشاء دولة مسيحية في المنطقة. ثمّ كرّرتها سنة ١٩١٥ فيما يُعرف بمذابح سيفو… هذه المذابح المتكرّرة رفعت نسبة السكّان الأكراد في المدينة من ١٠٪ إلى ٥٠٪. ويُذكر أنّ الفصائل الكردية التي تكوّنت عن مجازر تلك الفترة انضمّت سنة ١٩١٦ إلى قوّات محمود بك الملّي في خدمة بريطانيا لمقاتلة قوّات جمعية العهد، ثمّ صارت في خدمة فرنسا عقب ١٩١٩.

عقب انقلاب ١٩٠٩ وتأسيس الحكم الاتّحادي، عادت الدولة العثمانية سنة ١٩١٠ إلى اعتماد تسمية {دياربكر} للمدينة واستمرّت هذه التسمية رسميّة حتّى مع إلغاء السلطنة العثمانية رسمياً سنة ١٩٢٢. وكانت حكومة الاتّحاديّين قد اعتمدت مدينة ديار بكر عاصمة لمتصرّفية جديدة باسم كردستان تلبية للرغبة الفرنسيّة والألمانيّة. وما كانت هذه المنطقة قد عرفت هذه التسمية قبل سنة ١٩١٠. ثمّ، جاء عام ١٩٢٤، سنة طرد بقايا المسيحيّين العرب والأرمن عن جَنُوب تركيا إلى سوريا والعراق والسويد وألمانيا.

خارطة مشروع السلطان محمّد الخامس لتحويل العثمانية إلى دولة فيدرالية.
خارطة مشروع السلطان محمّد الخامس لتحويل العثمانية إلى دولة فيدرالية.

ثمّ، بعد الانقلاب اللّغوي وتحوّل الجمهورية التركية إلى استعمال الحرف اللاتيني بديلاً عن العربيّ، تغيّر اسم المدينة سنة ١٩٢٨ من ديار بكر إلى Diyarbekir. لكن، سنة ١٩٣٧ وتحت حكم النظام القوميّ أمر مصطفى كمال بتغيير اسم المدينة إلى Diyarbakır لكي يصير له تأصيل تركي هو “أرض النحاس”.

في رد فعل على أوامر مصطفى كمال اعتمدت الجالية الأرمنية في المدينة تسمية تِگرَنَكيرت Տիգրանակերտ، في حين اعتمدت الجالية الكردية تسمية أميد. أمّا السكّان المحلّيّين من أتباع الكنيسة السريانية فاعتمدوا التسمية القديمة آميد ܐܡܝܕ لتحاشي استعمال المعنى التركي الجديد. غير أنّ العرب عموماً من أهل المنطقة يفضّلون استعمال اسم المدينة {ديار بكر} لما فيه من قيمة تاريخية.

مراجع ومصادر:

لتأصيل التسمية يمكن الرجوع إلى الصفحات 123–124 من كتاب, How did the Persian King of Kings Get His Wine? The upper Tigris in antiquity (c.700 BCE to 636 CE) تأليف Anthony Comfort و Michał Marciak. نشر ٢٠١٨.

حول مفاوضات بني تغلب يمكن الرجوع إلى:

  • ابن خلدون، عبد الرحمن. تاريخ ابن خلدون (نسخة دار الكتاب العربي، بيروت، 1988).
  • الطبري، محمد بن جرير. تاريخ الأمم والملوك (نسخة دار الكتب العلمية، بيروت، 1992).
  • البلاذري، أحمد بن يحيى بن جابر. فتوح البلدان (نسخة دار الكتب العلمية، بيروت، 1999).

حول حياة بني بكر والعرب عموماً في الجزيرة العليا قبل الإسلام:

  • “The Arab Conquest of Iran and Its Aftermath” بقلم Laurence P. Elwell-Sutton.
  • “The Formation of the Arab Tribal Confederations in Northern Mesopotamia in the Pre-Islamic Period” بقلم Edmund Bosworth.
  • “The Sasanian Empire” بقلم Touraj Daryaee.
  • “The Christians of Persia in the Pre-Islamic Period: A Sourcebook” تحرير Arthur Christensen.
  • “Syriac Writers from Qatar in the Sasanian and Early Islamic Period” بقلم Mario Kozah, Alphonse Mingana, و Hidemi Takahashi.
الإعلانات

تبرّعك يساعدنا على الاستمرار، ويدعم تطوير هذا المحتوى العلمي

مرة واحدة
شهري
سنوي

تبرّع لمرّة واحدة

تبرّع شهريّاً

تبرّع سنويّاً

اختر المبلغ

€5.00
€15.00
€100.00
€5.00
€15.00
€100.00
€5.00
€15.00
€100.00

دعمك لنا مفيد جداً.

شكراً جزيلاً لدعمك.

نقدر على الاستمرار بفضل دعمك.

تبرّعتبرّعتبرّع

تعليقات

أضف تعليق

الإعلانات

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم