الإعلانات
, , ,

في تأصيل عرش

يتطاول بُلهاء اللاعربية على الحضارة العربية العظيمة، مدّعين أنّ العرب ما قدّموا إلى العالم شيء، وأنّهم “حضارة مزعومة” صنعها الإغريق والرومان… طيّب، انظر معي في هذه النقطة الصغيرة من تفاصيل التاريخ، كم هي عظيمة في أثرها وما تشير إليه.

كلمة عرش العربية هي في الواقع تحوير لكلمة عربية قديمة من العهد السومري والأگّدي هي {أش-تو} 𒀸𒋫، وتعني عرش، وتحوّرت إلى أرشتو التي تحوّرت في العهد البابلي إلى عشّتو (عشّة) و عرشةُ، مع ظهور صوت العين.

النحت الأصلي لكلمة أشتو يأتي من دمج الكلمتين:

  • أش 𒀸 بمعنى: واحد، هو (الذي)، كامل, متكامل, صحيح، كل, جميع, مجموع، مدينة… وهي نفسها الكلمة التي صارت أُر. أور. أُورش.
  • تو 𒋫 بمعنى: تام، مُنجز، مكتمل.

بناءً على ذلك، فإن “أشتو” في الكتابات الأگّدية تشير إلى الأساس أو القاعدة بمعنى تقني محدّد، ممّا يُظهر الأهمّية الكبيرة للأساس في البناء، وهو ما يمكن أن نربطه بفكرة الاستقرار والثبات والتأسيس الذي يُبنى عليه شيء ما. وهذا سبب تحوّر استعمال الكلمة في بعض السياقات بمعنى عرش المملكة أو عرش الحكومة، بمقصد بلاغي يعني أساس المُلك، أو أساس الحُكم.

أقدم نقوش بين النهرين التي تذكر كلمة أشتو تعود إلى حِقْبَة ٣٤٠٠-٣٣٠٠ ق.م. أي قبل حوالي ٥٤٠٠ سنة من اليوم.

في عهد الإمبراطورية الأسورية (الآشورية) ظهرت واحدة من بنات كلمة {أرشتو} العربية في اللغة الإغريقية. وهي واحدة من تأثيرات فترة تبنّي الإغريق للأبجدية والديانة والفلسفة الفينيقية.

الكلمة الإغريقية أرچِتيكتون ἀρχιτέκτων هي في الواقع نحت من كلمتين، هنّ:

  • أرچ (أرخِ) ἀρχι وهي مستوردة من الفينيقية بنفس المعاني العربية: رئيس. حاكم. سيد. أساس.
  • تيكتون (تاكتون) τέκτων وهي كذلك مستوردة من الفينيقية بالمعاني: بناء، صُنع.

وعلى هذا صارت كلمة أرچِتيكتون ἀρχιτέκτων تُستعمل للإشارة إلى “مُعلميّة فن البناء” أو “معرفة علم البناء”. ودخلت الكلمة إلى اللّغة الإغريقية في القرن السابع قبل الميلاد. بعد آلاف السنين من تداول كلمة أشتو (أرشتو) في المجتمعات العربية.

من الإغريقية أو من الفينيقية مباشرة دخلت الكلمة إلى التداول اللاتيني بصيغة architectura بمعنى “مُصمّم” أو كما نقول اليوم معماري، لأنّه مصمّم متخصّص في مجال البناء. وتقابلها في عربية بغداد كلمة “معلّم” التي لم تزل مستعملة بذات المعنى في مصر والشام.

لمّا تنتقل العلوم بين المجتمعات، يحتفظ لها المستورِد باسمها الأصلي الوافد من اللّغة التي قدّمت هذا العلم. وعلم العمارة بكلّه استورده الإغريق والرومان عن العرب.

في القرن السابع قبل الميلاد، كان التفاعل بين الفينيقيّين والإغريق في أقصى مداه في المجالات التجارية والثقافية. هذا التفاعل كان له تأثيرات بعيدة المدى على كلا الحضارتين، وخاصة فيما يتعلّق بتطور الكتابة الإغريقية (اليونانية) والتبادل التجاري.

أحد أهم جوانب التأثير الفينيقي على الإغريق كان في مجال الكتابة. الفينيقيّون من بين الأوائل الذين طوّروا أبجديّة تتكوّن من حروف تمثل الأصوات، وهو ما سهّل على الإغريق اعتماد وتطوير نظامهم الأبجدي الخاص. فأخذ الإغريق الأبجدية الفينيقية وطوّرنها في اليونان لتصبح الأبجدية الإغريقية (اليونانية)، التي أضافت الحروف الصوتية، ممّا جعل الكتابة فعّالية أكثر لتمثيل اللّغة الإغريقية (اليونانية).

كان لهذا التطوّر الكتابي تأثيرات هائلة على الثقافة الإغريقية (اليونانية)، ممّا ساعد على انتشار الأدب والفلسفة والعلوم. الفينيقيون، وعلى وجه الخصوص تجّارهم والمستكشفون، أدّو دوراً هاماً في نقل المعرفة الثقافية والتقنية بين الحضارات، بما في ذلك إلى الإغريق.

التفاعل بين اليونانيين والفينيقيين أثّر أيضاً على الجوانب الدينية والفنّية لكلا الثقافتين.

الإغريق تأثّروا بالممارسات الدينية الفينيقية، وهناك دلائل على أن بعض الآلهة اليونانية قد استوعبت خصائص من الآلهة الفينيقية. ديانة دجن (داگون) العربية السومرية-الفينيقية هي نفسها التي صارت ديانة ذيوس الإغريقية. والكتاب المقدّس لديانة ذيوس هو في الواقع تَرْجَمَة إغريقية عن كتاب داگون المقدّس حدثت على يد كاهن بيروتي.

في مجال الفن، انتقلت الأساليب الفنّية والتقنيّات الفينيقية إلى الإغريق، مثل صناعة الزجاج والحلي، مما أثرى الحرف اليدوية في كلا الثقافتين.

التفاعل بين الفينيقيين والإغريق في القرن السابع قبل الميلاد كان مثمرًا وأدّى إلى تبادلات ثقافية واقتصادية هامة. الأبجدية الفينيقية، كمثال بارز، أدّت دوراً أساسيّاً في تطوير الكتابة في اليونان، ممّا ساهم في نهضة ثقافية وأدبية. التجارة والاستعمار عززا الروابط بين الشعوب المتوسّطية وأدّت إلى تفاعلات طويلة الأمد التي شكلت ملامح الحضارة الغربية.

 تُظهر هذه المعلومات عمق الجذور التاريخية للّغة العربية وتأثيرها على لغات وحضارات أخرى عبر التاريخ. ومن المهم الإشارة إلى أنّ الحضارة العربية ساهمت بشكل كبير في تطور العلوم والمعارف في مختلف المجالات، وكان لها دور محوري في نقل وتطوير إرث حضاراتها السابقة مثل السومرية والأگّديّة والبابلية.

ثمّ أن تتبّع أصول الكلمات وتحوّلاتها عبر اللّغات المختلفة يُظهر التبادل الثقافي والمعرفي بين الشعوب والحضارات، ويؤكّد على الترابط بين الإنسانية برغم الاختلافات. لكن في نفس الوقت، من الضروري تجنّب التعميم أو التقليل من شأن مساهمات الحضارات الأخرى. فكلّ حضارة بنت على ما سبقها وأضافت إليها. والتفاعل والتبادل بين مختلف الحضارات هو ما أثرى المعارف الإنسانية على مر العصور.

أعتقد أنّه بدلاً من التنافس، علينا النظر بتقدير لمساهمات كلّ الشعوب والثقافات في التراث الإنساني المشترك، والاستمرار في البناء عليها لمصلحة البشرية جمعاء.

مراجع

  1. “The Semitic Languages” بقلم Robert Hetzron
  2. “A Comparative Semitic Lexicon of the Phoenician and Punic Languages” بقلم Richard Tomback
  3. “Greek and Latin in Arabic Texts of the Middle Ages” بقلم Georg Graf
  4. “The Arabs in Antiquity: Their History from the Assyrians to the Umayyads” بقلم Jan Retso
  5. “Etymological Dictionary of Arabic” بقلم Stephan Guth
  6. “Phoenician and the Languages of Canaan” نُشر في Journal of Semitic Studies
  7. “The Influence of Arabic on Other Languages” نُشر في Middle Eastern Languages and the Print Revolution

قد يهمّك أيضاً :: RSS

الإعلانات

تبرّعك يساعدنا على الاستمرار، ويدعم تطوير هذا المحتوى العلمي

مرة واحدة
شهري
سنوي

تبرّع لمرّة واحدة

تبرّع شهريّاً

تبرّع سنويّاً

اختر المبلغ

€5.00
€15.00
€100.00
€5.00
€15.00
€100.00
€5.00
€15.00
€100.00

دعمك لنا مفيد جداً.

شكراً جزيلاً لدعمك.

نقدر على الاستمرار بفضل دعمك.

تبرّعتبرّعتبرّع

تعليقات

أضف تعليق

الإعلانات

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم