الإعلانات
, , , , , , , , , , ,

من كنعان إلى فينيقيا: قصة تطوّر أسماء حضارة عظيمة

عندما يُذكر اسم “الفينيقيّون”، تتبادر إلى أذهاننا صور نمطيّة عن شعب عريق اشتهر ببراعته في التجارة والملاحة وصناعة الأرجوان. لكن، هل فكّرنا يوماً في مدى دقّة هذه التسمية أو في الأسماء الأخرى التي عُرفوا بها؟ بالتأكيد فكّرنا. لكن، مع الأسف، تنتشر أعراف شعبية خاطئة ترفدها الخرافات سياسية المنشأ.

في هذه التدوينة، أسلّط الضوء على الحقيقة وراء الأسماء الشائعة للفينيقيّين، وأحاول تصحيح بعض المفاهيم الخاطئة المتداولة حولها. سنستعرض الأسماء التي أطلقها الفينيقيّون على أنفسهم وتلك التي نعتهم بها الآخرون، ونتتبّع جذورها اللّغوية ودلالاتها الحقيقية. هدفي هو الوصول إلى فهم أعمق وأدقّ لهوية هذا الشعب العريق من طريق تفسير أسمائه المتنوعة.


أطلق الفنيقيّون عموماً على بلادهم اسم پت 𐤐𐤕 التي يُصار إلى تأويلها اليوم بصيغة {پوتّ} و {پونت}. وأطلقوا وعلى شعبهم اسم پونيٌّ 𐤐𐤍𐤉 و پونيُّم 𐤐𐤍𐤉𐤌. وهي مصدر التسمية اللاتينية پونيقي Punici (پُنيقي).

لا يوجد تفسير دقيق ومتّفق عليه بشكل كامل لهذا الاسم پت 𐤐𐤕، غير أنّنا نجد في المعجم الأگّدي كلمة {پوتِش} pūtiš التي تعني: عبر، على جانب آخر، معاكس، معاد، معارض، متضارب، متضادّ، متعارض، مواجه، مقابل، نقيض، ضدّ، خَصْم. ومنها تسمية الشام وحلب في الأگّدية {پوتِش ناري} pūtiš nāri أي على الضفّة الأخرى من النهر أو عبر النهر، لأنّ الوصول إليها كانت يحتاج إلى عبور نهر الفرات. وأصلها الكلمة {پوت} pūt (فوت) بمعنى: مقابل، أمام، نحو.

في المقابل تذكر بعض نقوش لبنان وفلسطين القديمة التي تعود إلى الألفية الأولى قبل الميلاد اسم البلد (وليس الشعب) بكلمة كنان 𐤊𐤍𐤏𐤍 التي تُقرأ كذلك كنعن و كنون. والتي يُصار إلى تأويلها اليوم بصيغة كنعان. ومن هذه النقوش: نقش تابوت ملك جبيل أحيرام في لبنان في القرن العاشر قبل الميلاد. ونقش مسلّة ملك مؤاب ميشع في القرن التاسع قبل الميلاد. ونقش بن عزر في جزيرة قبرص من القرن التاسع قبل الميلاد.

وحين أسّس الفنيقيّون دولة في القرن التاسع قبل الميلاد من مدينة قرطاج على الغرب أطلقوا عليها اسم آفرين 𐤏𐤐𐤓𐤉 (عفرينُ – عفريٌ) واسم البلد هذا مشتقّ عن صفة مواطن بالفنيقية: آفِر (عفر) 𐤏𐤐𐤓 (نجدها نفسها في الآرامية)، وكلمة عفر هذه تقابل كلمة مواطن في اللّغة العربية الحديثة. وعلى هذا يصبح اسم البلد هو ”المواطِنيّة“ تماماً كمعنى اسم ألمانيا المعاصر دويچلاند Deutschland بلد المواطنين.

لاحقاً في تدويناتهم المكتشفة في طرابلس الغرب أشاروا إلى أنفسهم بصفتيّ {سوريم} 𐤑𐤓𐤉𐤌 و {صوريُّم} 𐤑𐤅𐤓𐤉𐤌 (𐤑𐤅𐤓+𐤉𐤌) و {طَيريّون} 𐤐𐤔𐤓𐤉𐤌 نسبة إلى مدينة صور {طيرة} 𐤐𐤔𐤓𐤕.

وكل ما سبق حَسَبَ أستاذ لغات الشرق الأدنى الأميركي چارلز كراملكوڤ Charles R. Krahmalkov. في كتابه ”قواعد اللّغة الفنيقية-الپونيقية“ A Phoenician-Punic grammar. وكراملكوڤ هو واضع أوّل معجم فنيقي متكامل أثبت فيه أنّ اللّغتين الفنيقيّة والپونيّة لهجتين عن لغة واحدة.

خارطة الطريق البحريّة الفنيقيّة فترة سنة 800 قبل الميلاد
خارطة الطريق البحريّة الفنيقيّة فترة سنة 800 قبل الميلاد

كلمة فنيقيّين بشكلها العربي المعاصر أصلها اللّفظة الإغريقية {فُوينيگوس} Φοίνικες (فُوينيقوس)، وهي اسم مضاف بصيغة جمع ومفردها {فُوينيگْو} φοῖνιξ وتعني الشخص الفينيقي.

إضافة إلى ذلك فإنّ كلمة {پوينگوس} φοίνῑκος (پوينقوس) المقدونية هي اسم مضاف مشتقّ عن {پوِنيگسي} φοῖνῐξ التي تعني لون الأرجوان واللّون القرمزي، والتمر ونخل التمر والأحمر التمري، والطائر الأحمر المذكور في أسطورة طائر الفينيق وهو طائر الفلامنكو المعاصر. وتعني {پوِنيگسي} كذلك الموسيقى الفنيقية. ~ حسب المعجم الهومري لعالم فقه اللّغة الألماني گيورگ أَوتينغيت Georg Autenrieth.

كلمة {پونِكِپِ}  𐀡𐀛𐀑𐀠 المقدونية الأقدم من الإغريقية، تحمل المعنيّين: نخل التمر، وكرم العنب. وكان الحرف پ φ المقدوني تحوّل في الإغريقية إلى حرف پف Φ ثمّ صار بذاته ف مجرّدة. فصارت؛ مع الزمن، كلّ الكلمات التي تبدأ بصوت پ تبدأ بصوت ف.

ونلاحظ دوران معاني كلمة {فُوينيگْو} وأصولها حول صفات النبيذ وألوانه. وفي نصوص إغريقية كوينية أخرى وردت الكلمة ذاتها بمعاني لون حمرة الدَّم وكذلك بمعنى الدَّم، وأحياناً بمعنى قتل وذبح تصويراً لسفح الدَّم. واليوم في بلاد الشام نسمّي هذه الدرجة من اللّون الأحمر باللّون الخمري أو النبيذي نسبة إلى النبيذ. والنبيذ صُنع بداياته من التمر مع إضافة العنب لاستغلال فطور الخميرة التي تنمو على قشرة حبّ العنب، قبل أن يقوم الخمّارون بتطوير النبيذ من العنب وحده دون استعمال التمر.

أقمشة مصبوغة بأصبغة فنيقيّة مختلفة مستخرجة من قواقع المرّيق البحريّة ومعروضة في متحف التاريخ الطبيعي في ڤيينّا، النمسا
أقمشة مصبوغة بأصبغة فنيقيّة مختلفة مستخرجة من قواقع المرّيق البحريّة ومعروضة في متحف التاريخ الطبيعي في ڤيينّا، النمسا

نصوص كثيرة من تدوينات الإغريق تذكر النبيذ باسم لونه {فُوينيگْو} φοῖνιξ، ما اعتقده الدارسون ولفترة طويلة أنّه اسم منسوب إلى الفنيقيّين؛ منتجي ومصدّري النبيذ حول المتوسط طوال قرون. واليوم لم تزل كلمة {فُينِكِس} Φοίνικες في اللّغة اليونانية تشير إلى نخل التمر عموماً، دون معانٍ أخرى. هذا دفع الدراسين إلى تصوّر أنّ كلمة {فُوينيگْو} منسوبة إلى اسم النبيذ… وهذا تصوّر بطُل بتحليل مكتشفات اليوم، وثبت عكسه.

الدكتورة الآثارية ماريا يوجينيا أَوبيت María Eugenia Aubet Semmler أستاذة مادة عصور ما قبل التاريخ في جامعة پومپيو فابرا برشلونة UPF تذكر رأياً مشابهاً في محاولاتهم لتأصيل اسم مدينة ”ڤينيسيا“ الإيطالية في كتابها ”صوْر والمستوطنات الفينيقية الغربية“ Tiro y las colonias fenicias de occidente.

على جانب آخر يربط دكتور اللّغات الهولاندي روبيرت بيكيز Robert Stephen Paul Beekes الاسم الآخر للفينيقيّين: الكنعانيّين؛ كذلك باللّون الأحمر، حيث يرى أنّ كلمة كنعان تنحدر من الكلمة المصرية القديمة {كِنَحّو} أو {كينَخّو} kinaḫḫu بمعنى الصوف المصبوغ بالأحمر، وكان الأحمر لوناً ملكيّاً خاصّاً بثياب الملوك وقصورهم وتميّز به بداية ملوك كنعان.

الآثاري الألماني بينّو لاندزبيرگير Benno Landsberger متخصّص بالتاريخ الأسوري؛ عاد بكلمة {كينَحّو} المصرية إلى كلمة {قِنَحُّ} qinaḫḫu السومرية-المصرية التي تعني اللّون الأحمر القاني. وأعاد تأصيلها إلى كلمة سومرية أقدم هي {قاين} و {قَين} التي تعني صفة اللّون القاني… الكلمة ذاتها ترد في النقوش الأگّدية بصيغة {أُقنو} وفي الأوگاريتية {إقنُ}، والكلمة ذاتها صارت في الإغريقية القديمة {كَيانو} kýanos بمعنى ملك وسُلطة بسبب ارتداء الملك لعباءة حمراء.

مخطط العلاقات اللغوية
مخطط العلاقات اللغوية

بالخلاصة:

  • پت / پوتّ / پونت / پونيّ / پونيُّم: أسماء الشعب.
  • كنان / كنعن / كنون: أسماء البلد.
  • آفرين / عفرين: اسم دولة قرطاج.
  • سوريم / صوريُّم / طَيريّون: أسماء الفينيقيّين نسبةً إلى مدينة صور.
  • الكلمة الإغريقية فُوينيگوس: تعني الشخص الفينيقي.
  • الكلمة المقدونية پوينگوس: تعني لون الأرجوان والتمر والطائر الفينيقي.
  • الفينيقيون معروفون بتصدير النبيذ الذي ارتبط باسمه لونٌ أحمر (فُوينيگْو).
  • اللون الأحمر كان لوناً ملكياً مميزاً في الحضارات القديمة.
  • اللغة الفينيقية والبونية هما لهجتان عن لغة واحدة.
  • كلمة “كنعان” مرتبطة باللون الأحمر والصوف المصبوغ، وفق التحليل اللغوي.
  • باحثون مثل چارلز كراملكوڤ، ماريا يوجينيا أَوبيت، وروبيرت بيكيز قدموا تحليلات حول الأصول اللغوية والثقافية للأسماء الفينيقية. والتأصيل يعود إلى كلمات سومرية ومصرية قديمة تتعلق بالألوان والملوك.
شجرة تطوّر أسماء الفينقيّين
شجرة تطوّر أسماء الفينقيّين
  • الأسماء الفينيقية تعكس هُوِيَّة الشعب وأراضيهم.
  • الألوان، خصوصاً الأحمر، أدّت دوراً مهماً في تسمياتهم وفي التجارة (مثل النبيذ).
  • البحوث الأثرية واللّغوية أكّدت ارتباطات مع الحضارات الأخرى وفسّرت بعض الأسماء على أساس استخدامات وألوان معينة.

بالإجمال، يمكننا القول إنّ دراسة الأسماء التي عُرِفَ بها الفينيقيّون عبر التاريخ تُقدّم نافذةً مهمّةً لفهم هذا الشعب العريق وثقافته وتأثيره الحضاري. سواءً الأسماء التي أطلقوها على أنفسهم مثل “پت” و”آفرين” و”سوريم”، أو تلك التي نعتهم بها الآخرون مثل “فُوينيگوس” و”پوينگوس”، فإنّها جميعاً تعكس جوانب متنوّعة من هويتهم وإرثهم.

من طريق استقصاء الجذور اللّغوية والدلالات الثقافية لهذه الأسماء، بجهود علماء أمثال كراملكوڤ وأوبيت وبيكيز، تتكشّف أمامنا صورة أكثر عمقاً وتفصيلاً عن حضارة الفينيقيّين. بدءاً من ارتباطهم الوثيق ببلاد الشام وعلاقاتهم بالحضارات الأخرى كالمصرية والسومرية، مروراً ببراعتهم في التجارة وتصدير السلع الفاخرة كالنبيذ والأصباغ الأرجوانية والقرمزية، وصولاً إلى مكانة اللّون الأحمر كرمز للحكم والملوكية في ثقافتهم.

هكذا، تُثبت الأسماء أنّها ليست مجرّد ألقاب عابرة، بل هي مفاتيح لأبواب المعرفة في تاريخ الشعوب والأمم. ومن خلال استيعابنا لما تحمله من معانٍ ورموز ودلالات، يمكننا تقدير الفينيقيّين والتعرّف عليهم بشكل أفضل، كجزء لا يتجزّأ من تراث العرب الخالد.

الإعلانات

تبرّعك يساعدنا على الاستمرار، ويدعم تطوير هذا المحتوى العلمي

مرة واحدة
شهري
سنوي

تبرّع لمرّة واحدة

تبرّع شهريّاً

تبرّع سنويّاً

اختر المبلغ

€5.00
€15.00
€100.00
€5.00
€15.00
€100.00
€5.00
€15.00
€100.00

دعمك لنا مفيد جداً.

شكراً جزيلاً لدعمك.

نقدر على الاستمرار بفضل دعمك.

تبرّعتبرّعتبرّع

تعليقات

أضف تعليق

الإعلانات

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم